المادة    
  1. مذهب المعتزلة والرد عليهم

    ثُمَّ قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
    قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
    [يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً].
    يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ :
    [هذا رد عَلَى المعتزلة في قولهم بوجوب فعل الأصلح للعبد عَلَى الله، وهي مسألة الهدى والإضلال، قالت المعتزلة: الهدى من الله بيان طريق الصواب، والإضلال: تسميه العبد ضالاً أو حكمه تَعَالَى عَلَى العبد بالضلال عند خلق العبد الضلال في نفسه.
    وهذا مبني عَلَى أصلهم الفاسد أن أفعال العباد مخلوقة لهم والدليل عَلَى ما قلناه قوله تعالى: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))[القصص:56] ولو كَانَ الهدى بيان الطريق لما صح هذا النفي عن نبيه؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الطريق لمن أحب وأبغض، وقوله تعالى: ((وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)) [السجدة:13] وقوله: ((يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))[المدثر:31] ولو كَانَ الهدى من الله البيان وهو عام في كل نفس لما صح التقييد بالمشيئة وكذا قوله تعالى: ((وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)) [الصافات:57] وقوله: ((مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [الأنعام:39] اهـ.

    الشرح:
    إن مسألة الهدى والضلال من أدق الأمور التي ينبغي أن نفهمها لكثرة ما وقع فيها من الخوض، لا سيما بين المعتزلة والأشعرية حيث قالت المعتزلة -الذين أورد المُصنِّف هذه الفقرة في الرد عليهم-: الهدى من الله هو أنه بين طريق الصواب، مثل ما نقول: وضع علامات عَلَى الطريق، وقال هذا هو الطريق الحق وأما الإضلال من الله، فهو أنه يسمى العبد ضالاً إذ أن العبد ضل من عند نفسه وارتسم الضلال فيه فسماه الله ضالاً.
    هذا هو معنى الهدى والضلال عند المعتزلة وهذا باطل.

    والصحيح في معنى الهدى والضلال، أن الهدى من الله وهو توفيق العبد للإيمان وإعانته عليه، والفضل كما قال المصنف: [ويعصم ويعافي فضلاً] أي: تفضل الله عَلَى العبد بأن يعينه ويوفقه إِلَى طريق الحق والخير، ويمده بذلك كما نقول دائما في صلاتنا ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5] وهذه الاستعانة لا تريدها المعتزلة، يقولون: نَحْنُ من عند أنفسنا نخلق فعل أنفسنا ونفعل الطاعات، أما المؤمن فَيَقُولُ: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5] فإليك نتوجه يا رب وبك نستعين، ولولا عون الله -تعالى- وتوفيقه لنا ما عبدناه ولا صلينا ولا زكينا، ولكن وفقنا لذلك وبينه لنا، وهدانا إليه، وأعطانا القوة عليه، وحجب عنا الشبهات والشهوات، وذلك من فضله ومنته حتى عبدناه فصلينا وصمنا إِلَى آخر ذلك، فالمسألة أكبر من أنه بين الطريق لنا فقط أو قال هذا هو الحق؛ بل إنه وفقنا وأعاننا وأمدنا وتفضل علينا، حتى فعلنا الهدى واهتدينا، وأما إضلال العبد فليس أن الله يسميه ضالاً بعد أن خلق العبد فعل نفسه الذي هو المعصية إنما إضلال الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- للعبد أي يُحجب الله عنه ويحرمه الفضل ويحرمه التوفيق مع بيان طريق الحق له.
    وهذا هو الفارق وما تجعله المعتزلة للمؤمنين وهو بيان طريق الحق، ونحن نقول هذا البيان حصل ووقع للعاصي وللكافر، وللفاجر، بين لكل واحد منهم طريق الحق، لكنه لم يعينه ولم يوفقه إلا أنه يفعله عدلاً منه تَبَارَكَ وَتَعَالَى وأما المؤمن فمع أنه بين له أيضاً إلا أنه وفقه وأمده وأعطاه فضلاً منه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-
    فـالمعتزلة يقولون: يجب عَلَى الله.
    وفي هذه العبارة جرأة، فمن يتجرأ أن يوجب عَلَى الله تَعَالَى شيئاً أن يفعل الأصلح للعباد.
    والأصلح لهذا العبد: أن يبين له طريق الهدى وأن يتركه ليعمل لنفسه مثلاً، فيرون أنه يجب عليه ذلك فنقول: لا يجب عَلَى الله تَعَالَى شيء ولكن الأمر يدور بين العدل وبين الفضل، فأما فضله تَعَالَى فإنه عَلَى المؤمنين: ((وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)) [النساء:113] تفضل الله عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن أوحى إليه، وأنزل إليه الكتاب، وجعله سيد ولد آدم، وجعله إمام المتقين، وإمام الغر المحجلين، ورسالته رحمةً للعالمين، كل هذا فضل من الله عَلَى نبيه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
  2. لا يستطيع أحد أن يوجب على الله فعل شيء

    لا يستطيع أحد أن يوجب عَلَى الله شيئاً ولكن الله تَعَالَى حجب الإيمان وحرم الهداية والتوفيق عدلاً منه جل شأنه، فقد حرم أبا لهب ومنعه من هذا الإيمان، وبين له الطريق وأوضحها له ومن أعظم الأدلة عَلَى ذلك: أن أبا لهب كَانَ يعلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صادق، وأنه لا يكذب أبداً، ولو أن أبا لهب وسأل نفسه هل مُحَمَّد هذا صادق أم أنه كاذب في دعوى الوحي! لقالت له نفسه: هو نبي وصادق، وما أكثر ما صرح به الكفار المعاندون للنبوة.
    فالحجة قامت عَلَى أبي لهب ولكن لماذا لم يؤمن؟
    هل هو من عند نفسه؟
    نعم، نقول: إن الله لم يوفقه ولم يتفضل عليه بالإيمان؛ لكن هذا التوفيق فضل من الله يعطه من يشاء ويحجبه عمن يشاء، ولا يحرمه أحد إلا لسبب من العبد لذاته، علم الله أنه لا خير فيه، كما قال الله تعالى: ((وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ))[الأنفال:23] لكن علم أنه لا خير فيه وأنه يرفض هذا الإيمان رغم الحجج الواضحة البينة، ولهذا لم يوفقه للإيمان وهذا عدل منه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مع أنه بين له طريق الهدى وقول المعتزلة بأن الهدى بيان الطريق وأن الإضلال تسمية العبد ضالاً هذا خطأ بل الهدى من الله تعالى: هو التوفيق والعون والإمداد والتفضل بالهداية وسلوك طريق الطاعة، وأما الإضلال فهو: صرف الإِنسَان وحجبه عن طريق الخير لفعل يفعله بسبب منه لعدم قابليته الهدى فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
    ولهذا جَاءَ في الحديث الصحيح {عملت اليهود إلى منتصف النهار كما نقول: إِلَى صلاة الظهر وعملت النَّصَارَى ما بين صلاة الظهر والعصر، وعملت هذه الأمة من صلاة العصر إِلَى المغرب.
    فضرب الله لذلك مثلاً بثلاثة عمال فرجل استأجرته بأجر إِلَى الظهر، فأعطيته ديناراً، والآخر استأجرته من الظهر إِلَى العصر فأعطيته ديناراً، ورجل استأجرته من العصر إِلَى المغرب فأعطيته ثلاث دنانير أو أكثر.
    فَقَالَ الأول والثاني لماذا تعطيه أكثر منا؟
    فاحتجت اليهود والنَّصَارَى -عَلَى أن الله تَعَالَى أعطى هذه الأمة أكثر منها - فَقَالُوا: يا رب عملوا قليلاً وأعطيتهم كثيراً؟
    فَقَالَ تعالى: أوقد حرمتكم من حقكم شيئاً، قالوا: لا يا رب قَالَ: ذلك فضلي أعطيه من أشاء}
    فهذا فضل من الله، فأنت إذا حرمت شيئاً من حقك تطالب به، فلا تعترض وقد أعطيت حقك إذا أعطى غيرك أكثر مما يستحق لتفضل المعطي بذلك، ومع ذلك إذا كَانَ المتفضل هو الله، فإنما يتفضل عَلَى أحد ويحرم آخر من هذا الفضل لِمَا يعلمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مما في نفس هذا من الخير والقابلية والتوجه ومراغمة النفس عَلَى قبول الحق، وما يعلم في نفس ذلك من رد الحق ودفعه وغمطه.

    فلما لم يقم العبد بما وجب عليه من طاعة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى والاستعانة به عَلَى نفسه خذله الله ووكله إِلَى نفسه، ومن وُكل إِلَى نفسه فقد خاب وخسر، ولهذا كَانَ من دعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إِلَى نفسي طرفة عين} وفي الرواية الأخرى: {فإنك إن تكلني إِلَى نفسي تكلني إِلَى ضعف وعجز وخطيئة} فالإِنسَان إذا وكل إِلَى نفسه فقد وكل إِلَى عقله وتفكيره وحرصه وأنه يعرف الحق ويعرف الخير والهدى والضلال فيخيب ويخسر ويشقى، بل الواجب عَلَى الإِنسَان أن يدعو الله تَعَالَى أن يهديه للحق، فإذا وجد من يبين له الحق فعليه أن يحمد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وأن يشكره.
    ولذلك استدل المُصنِّف في الرد عَلَى قول المعتزلة بأن الهدى لو كَانَ هو بيان الطريق لما قال الله لنبيه: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ))[القصص:56] لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بين الطريق فالبيان والإرشاد حصل منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن هداية التوفيق والامتثال والتفضل ليست من عنده كما قال الله تعالى:((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))[القصص:56] وقد قال له ((وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))[الشورى:52] أي: إنك تبين الطريق المستقيم وتدعو إليه وتوضحه للناس، أما قوله: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ))[القصص:56] أي: إنك لا توفق من تشاء ليكون مؤمناً.
    وهذه الآية نزلت في عمه أبي طالب لما حرص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذ يُلح عليه أن يسلم، ويقول له: {يا عمِ قل كلمة أحاجُّ لك بها عند الله} ففاضت روح عمه وهو يقول إنه عَلَى ملة عبد المطلب، فرَسُول الله يُلح عليه وهو يعلم صدقه، ولا يوجد أحد من الْمُشْرِكِينَ أعلم بصدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبي طالب، ولذلك حماه وأواه وحوصر معه في الشعب في سبيل نصرته النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    ولو كَانَ كاذباً لما تحمل هذا الأذى كله من أجله، ولكنه يعلم أنه صادق لكن مع ذلك كله لم يؤمن به فالمسالة مسألة هداية وتوفيق من الله وليست بالرأي ولا بالعقل ولا ببيان الحجج فعلينا أن نسأل الله دائماً الهدية والتوفيق كما جَاءَ في سورة الفاتحة ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5].
    ونعلم أنه هو الذي يعيننا عَلَى الطاعة، وأنه لو وكلنا إِلَى أنفسنا طرفة عين لهلكنا، ونقول بعد ذلك: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) [الفاتحة:6] فهو الذي يهدينا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فندعوه دائماً في كل ركعة بأنك أنت الذي تعين العبد ولولا توفيقك وإعانتك لما عبدك أحد، ولما آمن بك أحد، حتى بعد أن يدخل أهل الجنة الجنة يقولون: ((وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)) فالأمر كله فضل منه تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

    ثُمَّ قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ :
    [وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله].
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
    [فإنهم كما قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ))[التغابن:2] فمن هداه إِلَى الإيمان فبفضله وله الحمد، ومن أضله فبعدله وله الحمد، وسيأتي لهذا المعنى زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى، فإن الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ لم يجمع الكلام في القدر في مكان واحد، بل فرقة، فأتيت به عَلَى ترتيبه] اهـ

    قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
    [وهو متعال عن الأضداد والأنداد].
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
    [الضد: المخالف، والند: المثل، فهو سبحانه لا معارض له، بل ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا مثل له، كما قال تعالى: ((وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ))[الإخلاص:4] ويشير الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ بنفي الضد أو الند إِلَى الرد عَلَى المعتزلة في زعمهم أن العبد يخلق فعله] اهـ.

    قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
    [لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره]
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
    [أي لا يرد قضاء الله راد ولا يعقب أي: لا يؤخر حكمه مؤخر، ولا يغلب أمره غالب، بل هو الله الواحد القهار] اهـ

    قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
    [آمنا بذلك كله وأيقنا أن كلاً من عنده]
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
    [أما الإيمان فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى، والإيقان الاستقرار من يقن الماء في الحوض إذا استقر، والتنوين في "كلاً" بدل الإضافة: أي كل كائن محدث من عند الله أي: بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته وتكوينه، وسيأتي الكلام عَلَى ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى] اهـ
    .
    الشرح:
    قوله: [وهو متعالٍ عن الأضداد والأنداد] لقد نفى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يكون له ضد أو ند في ملكه وأفعاله أو أفعال العباد كما قال تعالى: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)) [الإخلاص] بل يجب أن يفرد وحده بالعبادة، وأما الذين اتخذوا من دون الله أنداداً؛ فأولئك هم المُشْرِكُونَ الذين توعدهم الله بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة، والتخليد في النارفي النار فاتخاذ الأنداد من دون الله تَعَالَى هو عين الشرك، فليس له تَعَالَى ضد ولا ند.
    وقوله -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [ولا راد لقضائه].
    قد سبق شرحه، ومعناه: أنه قد كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكل ما كتبه الله تَعَالَى فهو واقع لا محالة ولا راد له كائناً من كان.
    وقوله [ولا معقب لحكمه] الحكم هنا يشمل الحكم الشرعي والقدري فأما حكمه القدري: فهو قضاؤه الذي سبق أن حكم به فلا يستطع أحد أن يدفعه.
    وأما حكمه الشرعي: فلا معقب لحكمه أي: لا مستدرك عليه مثال ذلك: عقوبة الزاني الجلد إن كَانَ بكراً، والرجم إن كَانَ ثيباً فلا معقب لحكمه كَانَ يأتي أحد فيجعلها السجن والغرامة أو يجعل الجلد أقل أو أكثر، كذلك حرم الله تَعَالَى الربا، فلا معقب لحكمه.
    كأن يأتي أحد فَيَقُولُ: الربا حلال ويتأول ويتفلسف في بيان استحلال ما حرم الله تعالى، فلا معقب لحكمه أبداً -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فما عَلَى العباد إلا أن يطيعوه وينقادوا له ويسلموا ولهذا خلقهم
    ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56] فلم يخلقهم ليعترضوا عليه، وإنما أعطاهم الله العقول؛ ليفكروا بها فيما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم ويفهموا بها دينه وشرعه فلم يعطهم العقول ليفكروا بها فيما يعارضون به شرعه ودينه، ويردون به عَلَى أنبياءه، أو عَلَى من يدعوهم إِلَى الحق والهدى.
    وقوله: [ولا غالب لأمره] أي: ولا غالب لأمر الله تَعَالَى إذا قدَّر أمراً بخلاف المخلوقين فإنه يغلب عَلَى كثير من أمورهم إلا ما شاء الله أنه ينفذ.
    وقوله: [آمنا بذلك كله وأيقنا أن كلاً من عنده] أي: آمنا بجميع ما تقدم من المباحث في إثبات الصفات والقدر آمنا بذلك كله، وأيقنا أنه من عند الله تعالى، وكل ما جَاءَ في كتاب الله، أو في سنة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنحن نؤمن به.